منقول /////مما زلزل قلبي
حدث في حج هذا العام ١٤٤٤ هجري
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه )
نقلا عن أحد الثقات
في أيام الحج تعرفتُّ على بعض الأخوات، جلسنا نتحدث عن أمور مختلفة يدور معظمها عن الدار الآخرة، فوجّهت إحدى الأخوات لنا سؤالًا (أخبـروني كيف أتيتُم إلى هُنا؟)
أجابت كل واحدة على السؤال إجابات معروفة ومشهورة، من قبيل أن هذه أتى بها زوجها، وهذه أتى بها ابنها ووو
وبقيَت أختٌ أخرى انتظرنا أن تجيب ولكنها سكتت قليلًا، فبادرت السائلة بلَفت انتباهها لتُجيب، فقالت [أتيتُ بالحُب]!
فتعجبنا جميعًا كيف هذا؟!
قالت وقد بدأت الدموع تتجمع في عينيها[ أحببتُه لدرجة أنني لم أستطع أن أصبِر فأتى بيَ الحب هنا]
فسألتها إحداهن قائلة : كيف هذا!
فقالت وهي توضّح[ كان لي منزلًا صغيرًا، أعيش فيه وحدي بعد موت والدَيّ، عرضته للبيع وبثمن البيع جئتُ إلى هنا]
فغرَت كل واحدة منا فاها! هل هذه من البشر أم جاءت من زمن الصحابة! هل يُعقل!
فأسرعنا بسؤالها [وبعد العودة ! أين ستعيشين! أنتِ وحيدة؟ هل لكِ مكان آخر تعيشين فيه؟]
فابتسمت وقالت[ لقد عِشت عمري كلّـه وحيدة بالفعل، حينما آثرت الدنيا على الآخرة، وآثرتُ نفسي على ربي، وانشغلتُ بشهواتي عن إصلاح قلبي، حينها حقًا كنتُ وحيدة، لأن الحياة الخالية من معرفة الله حياة كئيبة، والقلب الخالي من معرفة الله قلب لا يعرف للأُنس سيبلًا، أمّا الآن فلسُت وحدي، معي خالق الكون، ومؤنس القلوب، وجليس من ذكرَه، فكيف أستوحشُ أو أشعرُ بالوحدة؟ ]
فقالت إحدى الأخوات بنبرة هادئة وتأثُرٍ بالغ بهذا الحديث[ وماذا عن مكان معيشتك بعد العودة؟!]
فأجابت قائلة[ أرجو من الله أن يُبدلني خيرًا منه في الجنة، فلا طاقة لي بالرجوع مرة أخرى، أخشىٰ أن أعود فأُسلَب حُبًا ملأ قلبي ووِجداني، أخشىٰ أن أعود للدنيا فأفقد الله مرةً أخرى، وأعيش عيشة الحائر لا إلى العصاة ولا إلى العارفين]
فقالت ٱحداهن متعجبة[ سبحان الله..] ثم سكتنا قليلًا.. فأردفت تُكمل [ولكن حبيبتي، يمكننا مساعدتك في إيجاد شقة ولو بالإيجار ونوفر لكِ عملًا، زوجي يستطيع مساعدتك في هذا الأمر، عسى الله أن يتقبل منكِ بَيعتك، ويرزقك مقابلها في الجنة] ثم ربتَت على يدها وقالت [ولكن لا تنسَي نصيبك من الدنيا]
فتبسمت صاحبتُنا وقالت[ أيُّ نصيب يا عَيني؟ لقد أخذتُ نصيبي من الدنيا كاملًا بل أكثر من نصيبي، صدقيني لقد طلّقتُ الدنيا ثلاثًا، لا تفكروا في هذا الأمر ولا تحملوا همّي فلي ربٌّ لا ينساني سيرزقني منزلًا خيرًا من منزلي هاهُنا، هذا ظني به فهو أوفَىٰ حبيب] ثم قالت [ لله درّ إحدى نساء السلف وهي القائلة : لو كان الموت يُشترى لاشتريته شوقًا لِلقاء ربي]
لا أُخفي عليكم بكينا جميعًا لحالها، وتضاءلت كل التنازلات جانب تنازلها لله، تمنينا لو أن الله أصلح قلوبنا لدرجة صلاحها هذه، أن نخرج في سبيل الله ولا ننظر للوراء ماذا ينتظرنا في الدنيا، أن نولِّي قلوبنا شطر سُبل الصلاح فثمّ النعيم المُقيم.
بعد حديثها لم نعرف ماذا نقول فآثرنا الصمت، وبالفعل ماذا نقول لمُحبّ صدق في محبته؟ نقنعه بأن يقلل من شوقه لربه ويؤثِر الدنيا قليلًا؟ كيف نقنعها بأن تفكر في الدنيا ثانية بعد أن تملك حبُ الله قلبَها؟ واللهِ لقد استحَيتُ أن أقول لها مثلما قالت الأخوات–رغم أنني أعلم أنهن قُلن هذا حِرصًا عليها– ولكنني استحيتُ أن أنصحها بالتفكير في الدنيا وفي قلبها سكَن حبُ الخالق وحده، فكيف أُدخِل على هذا الساكن الجليل ساكنًا رديئًا حقيرًا.
وبينما كنا نفكر في أمرها وساد الصمتُ، وجدناها تكتب وريقات متعددة، ووزعتها علينا وقالت[ناشدتكم الله ألا تفتحنَها إلا بعد عودتكم] ورغم الفضول نزلنا على حديثها واستسلمنا لرغبتها..
...
هذا هو اليوم التاسع، اليوم الذي تتأهب فيه الأرض لأعظم موكب يمرّ كل عام في تاريخها، يوم عرفة، يوم تنزّل الملك سبحانه وبحمده للسماء الدنيا، استعد الجميع للدعاء وتأهّبت القلوب للسباق مَن منا المُختار يا تُرى والمُصطفى؟
اللهم لا تحرمنا فضلك ولا تحرمنا عفوَك ولا تحرمنا عطائك، وانظر لنا نظرةً لا نشقىٰ بعدها أبدًا..
قُبيل مغرب يوم عرفة قابلنا صاحبتنا فوجدناها ازدادت جمالًا عن ذي قبل، كيف لا وحب الله يُضفي على الروح جمالًا من جمال الله فكيف بالبدن!
فقلت لها[ كلما رأيتكِ تذكرت نساء السلف يا حبيبة، أرجو ألا تكوني نسيتِني من صالح دعائكِ] فتبسمت وقالت [لم أنسَ لا تقلقي، اسأل الله ألا ينساكِ] فارتجف قلبي وأمسكتُ بيدها ومشينا استعدادًا للصلاة .. فقالت لي سأذهب لفعل شيء وأعود ٱليك، فلم أحب أن أُثقل عليها بالسؤال فتركتها تذهب.
فبدأنا الصلاة وهي لم تأتِ بعد فقلقتُ عليها ودعوت الله أن ييسر أمرها، وبعدما فرغنا من الصلاة، وجدنا الناس ملتفّين حول أحد، لا ندري ماذا يحدث فوقفنا بعيدًا، فإذا بنا نجد صاحبتنا قد ماتت، لا أستطيع وصف الصدمة والذهول الذي بدا علينا، فاقتربنا منها والدمع كالسيل، فقالت إحدانا [ربحَ البَيع يا حبيبةُ ربح البيع، لقد أبدلكِ الله جوارًا خيرًا من جوارنا وبيتًا خيرًا من بيوتنا ومنزلًا خيرًا من منزلِنا، لله درّ الصادقين لقد أحدثوا في قلوبنا العجب العجاب.
دُفنت الحبيبةُ في خَير بقاع الأرض وصلينا عليها عقب صلاة العشاء، لو كان الموت يُشترى لاشتريته، فما العُملة يا رب؟ فما العُملة!
إنّـه الصدق واللهِ..
الصدق الذي دفع المُحبين لبيع الغالي والنفيس مقابل نظرة رضا من الله عز وجل.
لما عُدنا كان كل ما يشغل بالي هو العودة لفتح الورقة التي كتبتها لنا حبيبة، ففتحتها فورَ وصولي لبلدتي فوجدتُ فيها [بسمِ اللهِ الرحمٰن الرحيم، من المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدُوا اللهَ عليهِ، الحمدُللهِ الذي لم يخذُل صادقًا، بالصدق بلغ أصحابُ النبي فهلّا صدقنا؟]
بكيتُ لساعاتٍ طوال، لقد كان موقف موتها مَهيب، لقد صلَى عليها أكثر من مليون مسلم، هذا التشريف من أهل الأرض فكيف بأهل السماء، رُحماك يارب لقد أسرفنا، فهلا قبلتنا وأدخلتنا في الصالحين، إنا لله وإنا إليه راجعون
راقت لي اللهم ارزقني وإياكم الصدق وحسن الخاتمة