البناء والترميم (24)
تصور حال ثقة الإسلام محمد ابن يعقوب الكليني، رضوان الله عليه، قبل أكثر من ألف سنة:
لا قلمَ عاديٍّ يُكتَبُ به؛ لا إمكانيات نشرٍ وطباعة مَكَني؛ ولا أجهزةَ حاسوب وبرامج تصنيف تعتمد الذكاء الإصطناعي.
كلُ ما عنده أدواتٌ بدائية- بقياس حاضرنا: مِدادٌ (حبر) وقراطيس، يتوفر كلاهما بشق الأنفس.
والله وحده العالم بوطأة الظرف السياسي والأمني، المحيط به شخصياً، أبّان الغيبة الصغرى التي عاصرها(١).
كيف تمكن الشيخ الكليني من تنظيم وتصنيف 16000 رواية(٢) ومن توزيعها في كتابه الشريف(الكافي)(٣) على ثلاثة أقسام:
الأصول، الفروع، الروضة؟
هذا التصنيف، إضافة لما قدمنا من ظروف مصاحبة، ليس عملية عادية سهلة كما هو حال من يقوم بتوزيع أوراق العملات النقدية حسب فئاتها كلاً بمكانه في دقائق معدودة.
بل سبقتها عملية تحقق وإثبات لكل رواية، حسب ما يذكر المصنف(قدس سره الشريف) في مقدمة كتابه بأنه:
"جمع الأحاديث وفقاً لعدم معارضتها القرآن، وموافقتها للإجماع. وحينما لا يرى وجهاً للترجيح يرجح إحدى الروايتين المتعارضتين التي تكون أقرب إلى الصحة في نظره"(٤).
الشيخ، فيما يظهر من عبارته، يسلك منهجية جمع القرائن. وهي منهجية صعبة معقدة، فيما يبدو- قياساً لغيرها، في مجال قوة واعتمادية المصدر. في حين ستظهر العبارة كذلك أنه (قدس سره) سيعمل من خلال ترجيحاته على ما يشبه تعبيد واختصار الطريق لمن سيأتي لاحقاً للبحث فيما يعرف في علم الأصول ب (تعارض الأدلة).
إذاً، الرجل يقدم نموذجاً للعمل الدءوب المُضني في بُعد مصدر المعلومات، وبُعدَ التصنيف. ويتجاوز ذلك مستخدماً المعالجة في المراحل السابقة لمرحلتها.
هل هذا من وجوه حرق المراحل؟
أم سيكون تصرفه هذا، حسب التقنيات الحديثة، من أدوات إدارة الجودة الشاملة( TQM)؟
ألم يعمل على تشذيب المدخلات(INPUTS) وتحسين جودتها؟
وإذا قيل بأن النتائج تتبع أخس(أو أخص) المقدمات، فإن العكس موجودٌ كذلك(٥).
هذا شذرٌ من حق الرجل، الذي قدّم حوضاً و ريّاً رويّاً ينهل منه الأعلام من بعده حتى الساعة.
ما زلنا في بُعد تنظيم المعلومات، لتأتي شواهد ونماذج أخرى لاحقاً، بمشيئته وعونه تعالى.
---------------
(١) ولد سنة 250 هجرية وتوفي سنة 329 هجرية، والمشهور أن الغيبة الصغرى للإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف امتدت من سنة 260 هجرية حتى وفاة السفير الرابع أبو القاسم الحسين ابن روح سنة 329 هجرية.
(٢) حسب العلامة أغا بزرگ الطهراني، وإلا فالرقم عند صاحب الحدائق سيكون 16199 رواية، قدّس الله سريهما.
(٣) كتاب الكافي أحد، وقيل أهم، الكتب الروائية الأربعة المعتمدة عند فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام. وهي(الكافي؛ التهذيب؛ الإستبصار؛ ومن لا يحضره الفقيه).
(٤)"الكافي- الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٨"
shiaonlinelibrary.com
(٥) كما يقال بلغة التقنية (GARBAGE IN GARBAGE OUT)